السبت، 11 يونيو 2016

العصفورة طارت

تململ عم عاشورفى مقعده الخشبي, أنزل ساقه اليسرى من تحت مؤخرته النصف ممتلئة باحثا بقدميه الأثنتين عن شبشبه المعروف صوته على سلالم العمارة كلها, متسائلا عما يمكن أن يكون قد دب في شقة الأستاذ عمرو الله يرحمه. نظر إلى أعلى من بئر السلم باحثا عن رأس مدام رانيا التي لم تعد تستطيع استخدام جهاز الانتركم بعد أن هشمه ابنها إلى عشرة أجزاء بعصا المقشة لكثرة ما يرن عليه المعزون ليفتح لهم أهل الدار باب العمارة.

"العصفورة طارت يا عم عاشور"

جرى عم عاشور على السلم لاحقا برأس مدام رانيا الذي سبقه إلى الداخل, لم يسمِ الله ولم يرن الجرس كعادته عندما تحتاجه المدام لتغيير لمبات نجفة السفرة المحروقة دائما أو للوقوف مع السباك فى الحمام, لكنه لم ينسى أن يخلع نعليه على العتبة الرخامية بكل الأحوال. دخل خلفها إلى البلكونة وقد أخذ صوت ابنتها ذات السبع سنوات يعلو شيئا فشيئا كلما اقترب. وقفت وقد تفرقت خصلات شعرها القصيرة فى عشوائية, تنزل الدموع غزيرة من عينيها المحمرتين, يسيل سائل من أنفها فتسحبه إلى الداخل مجددا فى صوت مسموع, تصرخ بصوت حاد صعب تصديق حقيقة أنه يخرج من حنجرة بهذا الحجم, تشير بإبهام يمناها إلى العصفورة. عصفورة صفراء ضئيلة, لا تكاد تُرى بين البلاطات الملونة التي استقرت على إحداها, تلعب بجناحيها وتنظر فى دهشة إلى التجمع البشري غير المألوف, حيث تقف الحاجة فاطمة جدة الأولاد تشير إليها بكلتا يديها لتقترب بينما أخذت الأم ابنتها بين ذراعيها وهي تسحبها إلى الوراء بحذر تاركة الساحة لعم عاشور ومهاراته المأمولة فى صيد العصافير. اقترحت الحاجة فاطمة على بواب العمارة أن يحلقا حولها من الجهتين فلا يدعا لها مجالا للهرب, فانطلقت الفتاة فى الصراخ مجددا مرددة أن "ابعدي أنتِ, أنتِ اللى سبتى القفص مفتوح".
أخذ عم عاشور يقترب فى بطء وقد انخفضت قامته لتصبح فى مستوى العصفورة, أخذ يصدر صفافيرا مثيرة للسخرية وبكل جدية, كأنه يتحدث إلى الطائر الصغير بلغته الأم حتى يفهم. تقدم الرجل زاحفا, أكثر فأكثر وقد بدأ ذراعه يستطيل ممتدا إلى كرة الريش الصفراء. كانت الجدة قد اقتنعت أنه بالفعل أمسك بها, وكفت الفتاة عن البكاء, فتح عم عاشور يديه فارغة, ليس بها شىء سوى الهواء.

"العصفورة طارت"

انطلق صياح الصغيرة عميقا عاليا كما لم يُسمع من قبل, ولا حتى ليلة مات الأستاذ عمرو الله يرحمه. أخذت رانيا تغريها بعصفورة جديدة, بل اثنتين, واحدة صفراء وواحدة زرقاء, بل ببغاء ملون, من النوع المتكلم وسنسميه سمسمة على اسم العصفورة التى طارت..لم تكف. بلا انقطاع, استمر بكاؤها.
أمسكت الحاجة فاطمة عصاها ولفت طرحة الصلاة حول شعرها الشائب ونزلت على السلالم لاعنة عند عمرو ورفضه دفع مصاريف الأسانسير, يللا الله يرحمه ويغفر له.
أصبحت الجدة على أسفلت الشارع والعصفورة تطير من شجرة إلى أخرى, تنتقل بين الأغصان وكأنها اكتشفت لعبة جديدة فى مدينة الملاهي والسيدة العجوز تسير فى أقصى سرعة تقدر عصاها عليها, موازية لها كظلها على الأرض وهى تنادي أن يا سمسمة تعالي, انزلي يا سمسمة الله يهديكي.
لم تصدق رانيا ما تراه من أعلى, وأخذت تأمر أمها بالصعود وبالكف عن الفضائح فلا يصعد إلا صوتها العالي قائلا أنها لن تعود إلا عندما تعود العصفورة. فارتفع صوت الطفلة بالبكاء وقد بكت أمها.

"حتى  تيتة والعصفورة سابونا ومش عايزين يبقوا معانا."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق