الخميس، 21 نوفمبر 2019

دليل السيد/ السيد حامد للبقاء على قيد الحياة

كيف استطاع السيد/السيد حامد البقاء حيا حتى الآن؟

لا علاقة لهذا السؤال الاستنكاري التعجبي بشعره الذي يشبه سحاب اليوم المشمس أو بالبقع الداكنة على يده شديدة البياض والكرمشة. ربما له علاقة غير مباشرة بأنه لا يسمع جيدا, أعني أنه بالفعل قد أخبرني بهذه الحقيقة بعد أن طلبنت منه نزول النفق, والذي - كما هو واضح- لم ننزله.
 ربما ارتباط الحقيقة السابقة بملاحظة لاحقة, وهي أنه أغلب الظن لا يرى كما ينبغي أيضا. كثيرا ما نغمض أعيننا عندما نستشعر الموت قريبا, مثل أن يقفز أحدهم من على الرصيف ليقذف بنفسه في منتصف الطريق أمام السيارة التي تبعد عنك مائة متر, لكننا لسبب خفي نؤمن أننا حين نفتحهم سنجد هذا المار ملعونا أو مشتوما لا قتيلا غارقا في الدماء على الأسفلت. 
مع السيد, المغامرة أشد إثارة, فهو لا يرى تماما, أعتقد أن حاله كحالي قبل الليزك. ينظر إلى الأشياء كفكرة مجردة, يستشعر روح الشارع لكنه لا يراه بالضرورة. مع ذلك يجب القول أنني لم افكر لثانية أن أعمل سائقا لأوبر قبل الليزك.
يتحرك السيد بثقة دليل الصحراء الذي يحفظ منحنيات الجبال وكأنه ولد بها رضيعا, آخذا غرزة هنا ثم أخرى هناك, بينما تفكر أنت وقد التصق خدك في الزجاج في معنى "إنا إلى ربنا لمنقلبون" وإن كان هذا الدعاء حرفيا مناسبا للأحداث.
يذكرني السيد حامد بالطفل في " Baby's day out". منطقيا وبشكل علمي, كان الفيلم لينتهي في أول نصف ساعة عندما يبدأ الطفل محاولاته الانتحارية في الشوارع والمواصلات ومواقع البناء وأكياس الخضار, لكنه دائما ما يخرج من بين الأنقاض حيا مبتسما غائبا تماما عن حقيقة أنه كان سيصبح قطعة من اللحم الميت لولا ملاكه الحارس الذي يرتعش جناحاه من جرعات الكافيين المركزة التي تبقيه يقظا لإنقاذه.
في النهاية, عندما أصل العيادة متأخرا نصف ساعة لأننا لم ننزل النفق, أتمنى ألا يتخلى الملاك الحارس عن السيد السيد حامد, فقط أتمنى أن ينصحه بعملية الليزك.

الخميس، 7 نوفمبر 2019

يوميات الحاج إسماعيل كامل

يستيقظ الحاج إسماعيل كامل كل يوم في السادسة, لم تستطع زوجته المغفور لها الحاجة سميرة تغيير هذه العادة عند طلوعه على المعاش ليبقى الحال على ما هو عليه.
يتحسس الحاج إسماعيل ساعة يده التي يضعها على الكومودينو بجانبه كل صباح مزهوا بدقة ساعته البيولوجية. في بداية كل يوم, يبقى ممدا على ظهره في السرير منتظرا خروج سميرة من الحمام ليدخل هو, لكنه سريعا ما يتذكر فيقرأ الفاتحة ويمسح على وجهه بكفيه. في الشتاء, يربط بإحكام حزام الروب الأزرق الكاروه حول جسده الآخذ في النحول وهو يشعر أن ربما ليلى معها حق حين تنظر إليه في حسرة مشوبة بالغضب قائلة "أنت مابتاكلش خالص يا بابا".
دائما ما ينسى نظارته المربعة ذات الإطار الذهبي ويتسائل في تعجب وقلق حقيقين, لماذا لا يرى الأشياء مع أنها بالقرب الذي يمكنه من لمسها بطرف أنفه إن أراد؟
 يرتدي نظارته في امتنان ويبدأ في لعبته المفضلة, اختبار نظره, قارئا أكثر السطور ضآلة في جرنال اليوم ثم يخلعها ناظرا إليها مصدقا أن "الإنسان عمل كل حاجة".
يمد يده إلى الراديو ويرفع الصوت إلى الحد الذي يؤنسه في المطبخ, وفي الوقت نفسه لا يزعج الدكتور عبد الحميد جاره الذي يقابله كل ثلثاء ليلا للعب الطاولة وهو يفكر كعادته اليومية "يا ترى فين الترانزيستور؟".
يضرب كفا بكف وهو يشم طبق الجبن القريش بالطماطم الذي تعده له أم ريماس وتتركه في الثلاجة بعد أن تنتهي من غسيل المواعين وترتيب الشقة. يجد الحاج إسماعيل أكل أم ريماس يبعث على البؤس لكنها طيبة, وربما تكون هي من أخفت الترانزيستور, فهي ترمي ما يعوق طريقها في أي درج, حتى أنه وجد سيارة سليم الحمراء الصغيرة بين جواربه.
كان هذا الترانزيستور بداية كل ما يفخر به الحاج إسماعيل, فهو يحكي لحفيده المبهور بالاختراعات العلمية والذي كاد يحيل البيت إلى رماد في إحدى تجاربه الفذة قصته مع الراديو. 
بدأ الأمر عندما جلست عمته على الكنبة بجانب الشباك, تخبط بيدها على الراديو لكنه لم يصدرغير ترددات مبهمة لا تلتقطها الأذن البشرية غالبا, فسهر عليه ليلة كاملة حتى صدح صوت الست منه ليلة الخميس أخيرا فما كان من عمته إلا أن دست في يده ما يعادل مصروف شهر كامل مما يدفع أبوه, فأخذ يعرض خدماته على عماته وأخواته وأصحاب والده لإصلاح أي راديو مهما كانت مشكلته حتى صنع إسماعيل بنفسه راديو صغير تستطيع بالفعل سماع أخبار جمال عبد الناصر من خلاله, وهو ما قاده بعد ذلك في وقت لاحق إلى رحلة عمره: منحة لندن, والتي من وقتها أصبحت مقياس الزمن,  فإذا ما حاول تذكر حدثا من أحداث حياته تسائل "دة كان قبل لندن ولا بعدها؟".
منتظرا غليان الماء على النار ليشرب الشاي باللبن, أخرج الإناء الفخاري الصغير وملأه بالأرز وذهب إلى البلكونة, نقر على الزجاج نقرتين قائلا "أنا جيت" ليقبل اليمام ويستقر حول الإناء على أطراف كرسي البلكونة التي لا تطأ قدما سليم الأرض حين يجلس عليه, يراقبهم وهم يدسون منقارهم في الطبق ويحركون رقبتهم بشكل يضحكه ثم كالعادة يشم رائحة الغاز ويتفاجيء -كالعادة أيضا- قائلا بصوت عال وهو يركض نحو المطبخ "يا خبر أبيض, البوتجاز!".