الجمعة، 31 أغسطس 2012

ياسين

 طفل صغير ذو شعر ذهبى و عينين خضراوين , ممسكا بيده كلها فرشاة , يغمسها بتأنى فى اللون الأزرق و يرسم..هذه أول مرة أرى فيها ياسين .
لم يكن صاخبا كغيره من صغار الحضانة , لكنه لم يكن هادئا كذلك.
قيل لى أن جدته هى من اصطحبته الى الحضانة أول يوم..لم أكن قد جئت الى الحضانة للعمل بعد , كان ذلك اثناء العام الدراسى و كطالبة فى كلية الحقوق لم يكن لدى متسع من الوقت لغير الدراسة..و مع ذلك فعندما عملت فى الحضانة و قابلت جدة ياسين طلبت منى رقم هاتفى لتطمئن عليه.
أطلبها على رقمها الذى اعطتنى اياه , فلا ترد..امسح بيدى على رأس الصغير و أجلس بجواره فى الفصل الضيق الملئ باللعب و الخالى من الأطفال و ابتسم و اقول له كذبا ان جدته فى الطريق و سوف تأتى بعد قليل لاصطحابه .
ياسين لدهشتى لم يكن يبكى , لا ادرى اذا كان يشعر بالغربة ..
كان يحكى لى باستفاضة عن جوربه المخطط الذى اختاره بنفسه ليليق مع قميصه المخطط..و استطرد راويا عن الجيلى الذى تصنعه جدته و ان جيلى الحضانة  يشبه مرطب البشرة الخاص بجدته .
ربع ساعة تمر و يظهر رجل لا استطيع ان احدد سنه بالضبط و لكنه بين الأربعين و الخامسة و الأربعين , اقترب مبتسما فأسرع ياسين اليه صائحا..لا هو أكبر من الخامسة و الأربعين و لكنه بلا شك أصغر من ان يكون قد تعدى السابعة و الأربعين..مدت يدى و سلمت عليه.
ليس صحيحا ما قالته لى دادة ثرية اذن , ياسين ليس وسيما لأن امه أجنبية فحسب..ربما فقط أخذ منها لون الشعر و لكنى أرى بوضوح انه أخذ عينين أبيه الخضراوين.
تعجبت من قدوم والد ياسين كثيرا..كل ما أعرفه عن هذا الرجل أنه يعمل فى أمريكا و انه لا يأتى لا قليلا فى بعض الاجازات , يزور ابنه و امه و يبيت ليليتين او ثلاثة و يعود الى عمله بالخارج.
بالفعل بعد هذه الواقعة بيومين بكى ياسين طوال اليوم فى الحضانة لأنه كان يريد أن يرسم له لوحة صغيرة ياخذها معه الى أمريكا , هدأت الصغير و اعطيته الايس كريم و اخبرته اننى سأساعده فى الغد ليرسم لوحة جميلة يعطيها لوالده حين يعود و أظن انه عاد ليبتسم بعد ذلك .
كان لدى فضول كبير عن أم ياسين التى لا تظهر و لا تسأل و لا يتحدث عنها ابنها ابدا..ربما تكون متوفية و ربما يكون والد ياسين قد طلقها و ما زال بينهما خلاف و ربما تعمل كثيرا فلا تجد للصغير وقتا..لا ادرى.
أسأل دادة ثرية بشكل عابر فى اليوم التالى " انما مامة ياسين عمرها ما جت خادته ليه ؟ "
تقص على ثرية القصة كما تعرفها :
أم ياسين امرأة أمريكية و تعرف عليها الباشمهندس هناك , فهو يعمل هناك منذ وقت طويل..تزوجها و انجبا ياسين , طفل جميل ذكى و  خفيف الظل ...لا أدرى ماذا حدث بالضبط او اى خلاف نشب بينهما و لكنها تركتهما و غادرت امريكا كلها..يقولون انها تعرفت على شاب بلجيكى وسيم و احبته و هربت معه ...لم يستطع الباشمهندس ترك عمله فى امريكا و لم يستطع الاعتناء به و خوفا من ان ينشأ نشأة غير سوية تركه هنا لجدته تربيه و ترعاه و أصر على دخوله الحضانة ليتعلم العربية اسرع و يعتاد وجوده بين اطفال اخرين فى مثل سنه...
و لم استمع الى باقى الحديث..اصابنى صداع نصفى و اخذت اذن و عدت الى المنزل.
نظرت الى امى و هى تتحدث هاتفيا مع خالتى و لم استطع ان اتخيلها تتركنا فى المنزل بلا طعام حتى تعود من مشوار تقضيه و بالتالى  عجز عقلى عن استيعاب ام ياسين التى تركت طفلها فى هذه السن الصغيرة جدا فى بلد ما و سافرت مع شخص اخر لبلد اخر و لم تعد..لا تسأل عنه و لا تعرف عنه شيئا !
لم استطع النوم و لم استطع القراءة او مشاهدة التلفاز..لا افعل شيئا الا و يفصلنى عنها وجه ياسين.
اهتممت كثيرا بان تكون لوحة ياسين رائعة و علمته كيف يرسم بيتا جميلا و كيف يلونه دون الخروج عن الخط . كان شديد الفرح يعد على اصابعه العشرة الأيام المتبقية لزيارة والده.
أتى اليوم الموعود و لم يظهر الأب و لم يتصل..ثلاثة أيام لاحقة و أخبرتنى دادة ثرية ان الباشمهندس مات , مات قبل ان يرى البيت الذى رسمه ابنه و لونه من اجله.
اختفى ياسين بعد ذلك و لم اره ,اتصلت بجدته عدة مرات و كان الهاتف مغلقا و لكنى حتى الان ادعو لها بطول العمر .
انتهى الصيف و عدت الى كليتى و لكنى ما زلت اذكر ياسين..اتمنى أن يكون بخير.