الخميس، 18 يونيو 2020

آيس كريم ليمون بسكوتة

كان ذلك أول سكوتر في حياتي، معدني اللون برقعة مطاطية زرقاء حيث أضع قدمي، أتأرجح به يمينا ويسارا أمام ماما فأسبقها أمتارا ثم أعود إليها من جديد، أدعها تتجاوزني حتى لا أرى سوى لون فستانها الأزرق فأضرب بقدمي اليسرى الأرض لألحق بها في ثوان. كان شغلي الشاغل في ذلك الوقت هو شعري وهو يطير بعنف للخلف وبعض ذرات الملح التي يأتي بها هواء الشاطيء لتستقرعلى شفتي وألا يعترض طريقي أحد. في الغالب لم يعترض طريقي أحد، ربما فقط ذلك الولد الذي أراه في النادي في الصباح على البيسين، يركب عجلة الكبار تلك التي بدون سنادات، يمر بجانبي بسرعة لم يصل إليها السكوتر ويرن ذلك الجرس ويترك الجادون ليضع يداه خلف رأسه في ثقة. بابا يقول أنه سيقع على وشه وأنا أصدقه فلا أحد يركب العجل أحسن من بابا. 
كان ذلك قبل أن تأتي بنت خالة ماما وأولادها للعجمي لقضاء أسبوع معنا. كان ذلك خميسا في شهر يوليو، الخميس الذي انهار فيه روتين حياتي الصيفية التي لا أحب أن يعبث بها أحد. فبدلا من أن أستيقظ وقت ما أحب، يهزونني هزا في التاسعة صباحا من أجل الإفطار، لا يحبون السباحة في الغريق لأنه بتاع الكبار، ولكني أعرف أن الحقيقة هي أنهم جبناء ليس إلا، وطبعا كلما حاولت التسلل لأعوم هناك يجرونني جرا للعب معهم بالكرة وأنا لم أكن أحب الكرة.
 في العادي كنت آكل طبقا من البطاطس المحمرة في النادي وأشاهد ذلك الولد وهو يلعب الفيديو جيم، ولكنهم لا يفضلون أكل النادي فيقتطعون من وقت البيسين ساعة للعودة إلى البيت والاستحمام وتحضير الطعام. أعود والدموع في عيني لكنى أرفض رفضا قاطعا أن أستحم بالمايوه مع بنت خالتي دفعة واحدة بحجة السرعة وعدم الانتظار فأبقى بالكاش مايوه في البلكونة أبحلق في الأفق وأتخيل كل ما فاتني من فيديو جيم اليوم،  بينما تقول لي خالتي أن الكلور سيأكل جلدي. 
اعتدت أنا وماما أن ننزل بعد آذان المغرب للكورنيش، حيث ألف بالسكوتر ثم آكل الذرة التي أبتاعها من طنط علية، نعود حتى محطة الطفطف، ندخل كشك الأهرام حيث تحضر أمي الجرائد لجدو وأختار أنا عددا من المكتبة الخضراء أو صرخة الرعب لأكمل المجموعة. طبعا منذ تشريفهم، قيلولة حتى الثامنة ثم ننزل لنلف حول المحلات، يقيسون الملابس، يجربون الأحذية، يتناقشون، يفاصلون ولا يبتاعون شيئا وأنا أسير إلى جانب ماما، أحاول أن أبعث لها رسائل سرية بأنني لا أريد هذا، وأنني فقط أريد بعض الذرة وشوية الهواء الذي يطير شعري إلى الخلف.
إلى أن جاء يوم الأحد، عندما حان الموعد اليومي للف على المحلات، وقفت على باب البيت وقد وضعت قدمي على السكوتر، وشوشتني ماما أنه ماينفعش لأن لا أحد غيري معه سكوتر عيب، لكني قررت إما السكوتر أو أقضي السهرة مع جدو وعمو مكرم وهما يلعبان الطاولة.
لماذا لا نشعر بالارتياح الكامل عندما ننفذ شيئا لم توافق ماما عليه؟ هل سأقع اليوم على وشي مثل الولد ذي العجلة لأنني لا أسمع الكلام؟
كنت قلقة، يدخلون المحل وأنا ألف أمام بابه بالسكوتر، يخرجون فأبقى بمحازاتهم، يدخلون مكانا جديدا فأدور في الخارج وهكذا، هكذا حتى سمعت ذلك الجرس الذي أعرفه، أخذت السكوتر وقررت أن أسبقه ولو مرة واحدة.
عندما لمحني خلفه ترك الجادون كعادته وقد فرد ذراعيه على كل جانب وكأنه طائرة، فأخذت أضرب الأرض أكثر وأنا أشعر بالهواء يخبط أذني بشكل أعنف من أي وقت مضى، اقتربت كثيرا منه، يطلع قليلا للأمام فألحق به وقد شعرت بالتوتر في حركته، أرجع يداه على العجلة و رفع مؤخرته قليلا من على المقعد وأخذت ساقاه تدوران حول البدالات في دوائر كالمروحة حتى ظننت أن له ١٠ سيقان.
حاولت أن أفعل مثله، أجري وأجري ولكني لم أعد آراه، فهو ينساب بين الناس يمينا ويسارا وكأنه ثعبان. توقفت في تلك اللحظة وأدركت أنني لست مثل الكبار الذين يركبون عجلات بلا سنادات، ليس بعد. عدلت اتجاه السكوتر لأعود لماما وخالتي، أخذت أتقدم وأنظر إلى يميني لأرى محلات لم أرها من قبل، لا أذكر بالتحديد في أي واحد هم؟ بدأت السير وقد أمسكت السكوتر في يدي كأنه حمار صغيرآخذه إلى نزهة، أطل برأسي داخل أي محل يقابلني بحثا عن ماما أو خالتي أو طنط علية بتاعة الذرة.
أعتقد أني وصلت لأرض لم تطأها قدمي من قبل، أنا لم أكن هنا أبدا من قبل. أخذت المشاهد تذوب في دموعي فلا أستطيع تمييز أي شيء سوى الألوان وأنا أفكر أن جدو هناك في البيت يلعب الطاولة مع عمو مكرم، ألم يكن من الأفضل أن أبقى معهم؟
أخذت الدموع تسيل من عيني، ماما معها كل المناديل حتى، أما أنا فلا شيء معي، سوى السكوتر اللعين.
قال لي بابا ألا أذهب مع أي حد يديني حاجة حلوة، أذكر ذلك جيدا ولكني لم أستطع أن أقول أي شيء، فقط أخذت أبكي عندما ناداني ذلك الرجل من عربة الآيس كريم. قال لي أن اسمه حسن وسألني عن اسمي ثم سألني عن مكان ماما وبابا فأخذت أبكي أكثر.
أجلسني عم حسن على العربة وكأنني علبة آيس كريم، "أنت عارفة، أنا تهت من ماما زمان في البحر، كنت باعوم وطلعت مالقيتش الشمسية بتاعتنا."
حكى لي عن كيف وجدته أمه، وأن ماما تجد دائما الطريق إلينا، علينا فقط أن نهدأ ونثق أنها تبحث عنا الآن وستجدنا، ولكننا لا نريد أن ترانا باكين منكوشين هكذا أليس كذلك؟
سألني عن نوع الآيس كريم الذي أفضله فأجبته من بين الشحتفات "أن أن أنا  باحب ال  ال الليمون"، فضحك وقد بدأ يبلل ملعقته الكبيرة في كوب من الماء قبل أن يكور كورة عملاقة من آيس كريم الليمون. "بسكوتة ولا كوباية؟"، فقلت أني أحب دائما آيس كريم الليمون في بسكوتة. 
لا أدري كم الوقت قد مضى، أعتقد أني لبضع دقائق كنت قد نسيت أني ضائعة في نقطة لم أعرفها من قبل على شاطئ لم أعد أعرف أين هو، فقد كان عم حسن لطيف فعلا، يركب الدراجات بلا سنادات ولا يغادر البيسين قبل الصفارة ويحب السباحة في الغريق.