الخميس، 3 سبتمبر 2020

حديث الريحان

 أخبرني أونكل جمال في لطف ممزوج بالقلق وأنا ألعب ذات يوم أمام المرآة أمثل مع نفسي مدعية أني سيدة أعمال فاسدة تقرر الهرب خارج البلاد أن المجانين فقط هم من يكلمون أنفسهم, وسألني أن ربما أجرب اللعب بدمى الباربي مثل أي بنت في السادسة ولكني لم أشعر بالإهانة إلا عندما سمعته يقول لبابا أني زي بنته وأنه من الأفضل تغطية هذه المرايا أحسن اللهم احفظنا.
تذكرت أونكل جمال في ازدراء في كل مرة رأيت فيها عم إبراهيم الجنايني. يقف بجلباب رمادي أو بني أحيانا, نحيفا قصيرا, يجرب اندفاع الماء من الخرطوم على يده قبل تصويبه نحو الأعشاب النامية القصيرة ويحدث الشجر بصوته الخفيض الذي يشبه كثيرا صوت قريب طيب يعيش في البلد أو شيئا مثل ذلك, قائلا أشياء قد يقولها أب يطعم صغاره. كنت أحب صوت ماء الخرطوم وهو يخبط برفق تلك الأوراق الصغيرة الخضراء وصوته, فكنت حين أسمعه من البلكونة ألبس "سابوه الطينة" الذي خصصته ماما للجنينة وأجري على الدرج لأشاهد مشهدي المفضل وأنا أشعر بأن أونكل جمال أكيد حمار.

"عم إبراهيم هما اللي بيكلموا نفسهم مجانين؟"

فيضحك قائلا أن الإنسان الطبيعي لابد أن يكون بينه وبين نفسه حديثا وإلا أصبح مجنونا, فأسأله مداعبة:

 "واللي بيكلم الزرع؟"

فيقول لي أن النبات يسمع ويتنفس ويعيش مثلنا, وأنه كلما عاملناه جيدا أزهر وأعطى ثمرا وإن أسأنا إليه غضب وتضاءل وأصبح لا فائدة منه, ثم أخذ يدي ومررها على عود قصير جدره في التربة وطلب مني أن أربت عليه وأقول له قولا طيبا فلم أجد شيئا إلا أن سألته إن كان سعيدا في حديقتنا لكنه لم يجب وكنت أعرف أنه لن يفعل فنظرت إلى عم إبراهيم في تحد  لكنه أشار إلي في ثقة لأضع كفي على أنفي.

كانت رائحة ذلك العود تذكرني كثيرا ببلكونة تيتة والتي كانت مكاني المفضل في بيتها اللطيف المليء بالروائح الطيبة, وقد أخبرتني ماما أنها الآن في مكان أوسع وأجمل وبه حدائق مهولة. لابد أنها مليئة بتلك العيدان القصيرة الجميلة التي يرويها عم إبراهيم أو ربما أبويه, فأنا أعلم أنهما ذهبا إلى حيث ذهبت جدتي.

"دة كلام الريحان, كل ما تكلميه يطلع ريحة حلوة".

منذ ذلك الحين وحتى الآن وأنا أزرع الريحان في الجنينة وأحادثه وأنا أشفق على أونكل جمال وأشباهه الذين لم يتسن لهم أن يستمعوا إلى حديث الريحان.

الخميس، 9 يوليو 2020

النافورة

وقف الرجل ثابتاً لحظات وقد أراح كفيه على كتفي صغيره ثم تسللت أصابعه تحت إبطه، رفعه إلى أعلى في تصميم وقد أخذ الصغير ينظر حوله في بلاهة بينما أخذت قدماه في الارتفاع حتى أصبحت في مستوى أنف أبيه، ثم في حركة مباغتة ألقى الأب بالطفل وراء ظهره ليرتطم بمياه النافورة الكبيرة في هدوء لا يقطعه سوى بعض البقللة التي سرعان ما سكنت وكأنما ألقى الرجل لتوه سنتاً أو قرشاً معدنياً بيده اليمنى من فوق كتفه الأيسر لتحقق له جنيات النافورة أحلامه فتحبه بنت الجيران أو تختفي زوجته فجأة من الوجود أو يجد بطاقة من بنك الحظ تقول "مبروك ربحت مائة مليون دولار بمناسبة عيد ميلادك".
لم يلتفت الأب ليتفقد ما حل بولده في النافورة بل وضع يديه في جيبي بنطاله ومشى.
في فجر اليوم التالي، وقفت السيدة تربت على ظهر رضيعها النائم وهي تحدق في مياه النافورة وكأنما طفى على سطحها انعكاس نرسيسوس. أخذت تبعد ابنها  تدريجيًا من على كتفها وقد بدأ يقلق ويتفوه بما يتفوه به حديثي الولادة من أصوات ثم بحذر، وضعته على  سطح الماء، طفى لوهلة ثم بدأت مياه النافورة تغطي وجهه شيئاً فشيئاً في هدوء حتى اختفى.
توافد بعد هاتين العديد من الحوادث المماثلة حيث يأتي رجال ونساء بأطفال مختلفي الأعمار والأشكال يلقون بهم في تلك النافورة الضخمة ثم يمضون وكأنما قد وقع قرش معدني من جيبهم الخلفي فلا تذكر إحداهن لجارتها ما حدث ولا يسأل أحدهم زميله في العمل عما يعتقد، تسير الحياة كما سارت دائماً، ربما فقط أكثر صمتاً فلا تسمع ضحكة بعيدة ولا نحيب.

الخميس، 18 يونيو 2020

آيس كريم ليمون بسكوتة

كان ذلك أول سكوتر في حياتي، معدني اللون برقعة مطاطية زرقاء حيث أضع قدمي، أتأرجح به يمينا ويسارا أمام ماما فأسبقها أمتارا ثم أعود إليها من جديد، أدعها تتجاوزني حتى لا أرى سوى لون فستانها الأزرق فأضرب بقدمي اليسرى الأرض لألحق بها في ثوان. كان شغلي الشاغل في ذلك الوقت هو شعري وهو يطير بعنف للخلف وبعض ذرات الملح التي يأتي بها هواء الشاطيء لتستقرعلى شفتي وألا يعترض طريقي أحد. في الغالب لم يعترض طريقي أحد، ربما فقط ذلك الولد الذي أراه في النادي في الصباح على البيسين، يركب عجلة الكبار تلك التي بدون سنادات، يمر بجانبي بسرعة لم يصل إليها السكوتر ويرن ذلك الجرس ويترك الجادون ليضع يداه خلف رأسه في ثقة. بابا يقول أنه سيقع على وشه وأنا أصدقه فلا أحد يركب العجل أحسن من بابا. 
كان ذلك قبل أن تأتي بنت خالة ماما وأولادها للعجمي لقضاء أسبوع معنا. كان ذلك خميسا في شهر يوليو، الخميس الذي انهار فيه روتين حياتي الصيفية التي لا أحب أن يعبث بها أحد. فبدلا من أن أستيقظ وقت ما أحب، يهزونني هزا في التاسعة صباحا من أجل الإفطار، لا يحبون السباحة في الغريق لأنه بتاع الكبار، ولكني أعرف أن الحقيقة هي أنهم جبناء ليس إلا، وطبعا كلما حاولت التسلل لأعوم هناك يجرونني جرا للعب معهم بالكرة وأنا لم أكن أحب الكرة.
 في العادي كنت آكل طبقا من البطاطس المحمرة في النادي وأشاهد ذلك الولد وهو يلعب الفيديو جيم، ولكنهم لا يفضلون أكل النادي فيقتطعون من وقت البيسين ساعة للعودة إلى البيت والاستحمام وتحضير الطعام. أعود والدموع في عيني لكنى أرفض رفضا قاطعا أن أستحم بالمايوه مع بنت خالتي دفعة واحدة بحجة السرعة وعدم الانتظار فأبقى بالكاش مايوه في البلكونة أبحلق في الأفق وأتخيل كل ما فاتني من فيديو جيم اليوم،  بينما تقول لي خالتي أن الكلور سيأكل جلدي. 
اعتدت أنا وماما أن ننزل بعد آذان المغرب للكورنيش، حيث ألف بالسكوتر ثم آكل الذرة التي أبتاعها من طنط علية، نعود حتى محطة الطفطف، ندخل كشك الأهرام حيث تحضر أمي الجرائد لجدو وأختار أنا عددا من المكتبة الخضراء أو صرخة الرعب لأكمل المجموعة. طبعا منذ تشريفهم، قيلولة حتى الثامنة ثم ننزل لنلف حول المحلات، يقيسون الملابس، يجربون الأحذية، يتناقشون، يفاصلون ولا يبتاعون شيئا وأنا أسير إلى جانب ماما، أحاول أن أبعث لها رسائل سرية بأنني لا أريد هذا، وأنني فقط أريد بعض الذرة وشوية الهواء الذي يطير شعري إلى الخلف.
إلى أن جاء يوم الأحد، عندما حان الموعد اليومي للف على المحلات، وقفت على باب البيت وقد وضعت قدمي على السكوتر، وشوشتني ماما أنه ماينفعش لأن لا أحد غيري معه سكوتر عيب، لكني قررت إما السكوتر أو أقضي السهرة مع جدو وعمو مكرم وهما يلعبان الطاولة.
لماذا لا نشعر بالارتياح الكامل عندما ننفذ شيئا لم توافق ماما عليه؟ هل سأقع اليوم على وشي مثل الولد ذي العجلة لأنني لا أسمع الكلام؟
كنت قلقة، يدخلون المحل وأنا ألف أمام بابه بالسكوتر، يخرجون فأبقى بمحازاتهم، يدخلون مكانا جديدا فأدور في الخارج وهكذا، هكذا حتى سمعت ذلك الجرس الذي أعرفه، أخذت السكوتر وقررت أن أسبقه ولو مرة واحدة.
عندما لمحني خلفه ترك الجادون كعادته وقد فرد ذراعيه على كل جانب وكأنه طائرة، فأخذت أضرب الأرض أكثر وأنا أشعر بالهواء يخبط أذني بشكل أعنف من أي وقت مضى، اقتربت كثيرا منه، يطلع قليلا للأمام فألحق به وقد شعرت بالتوتر في حركته، أرجع يداه على العجلة و رفع مؤخرته قليلا من على المقعد وأخذت ساقاه تدوران حول البدالات في دوائر كالمروحة حتى ظننت أن له ١٠ سيقان.
حاولت أن أفعل مثله، أجري وأجري ولكني لم أعد آراه، فهو ينساب بين الناس يمينا ويسارا وكأنه ثعبان. توقفت في تلك اللحظة وأدركت أنني لست مثل الكبار الذين يركبون عجلات بلا سنادات، ليس بعد. عدلت اتجاه السكوتر لأعود لماما وخالتي، أخذت أتقدم وأنظر إلى يميني لأرى محلات لم أرها من قبل، لا أذكر بالتحديد في أي واحد هم؟ بدأت السير وقد أمسكت السكوتر في يدي كأنه حمار صغيرآخذه إلى نزهة، أطل برأسي داخل أي محل يقابلني بحثا عن ماما أو خالتي أو طنط علية بتاعة الذرة.
أعتقد أني وصلت لأرض لم تطأها قدمي من قبل، أنا لم أكن هنا أبدا من قبل. أخذت المشاهد تذوب في دموعي فلا أستطيع تمييز أي شيء سوى الألوان وأنا أفكر أن جدو هناك في البيت يلعب الطاولة مع عمو مكرم، ألم يكن من الأفضل أن أبقى معهم؟
أخذت الدموع تسيل من عيني، ماما معها كل المناديل حتى، أما أنا فلا شيء معي، سوى السكوتر اللعين.
قال لي بابا ألا أذهب مع أي حد يديني حاجة حلوة، أذكر ذلك جيدا ولكني لم أستطع أن أقول أي شيء، فقط أخذت أبكي عندما ناداني ذلك الرجل من عربة الآيس كريم. قال لي أن اسمه حسن وسألني عن اسمي ثم سألني عن مكان ماما وبابا فأخذت أبكي أكثر.
أجلسني عم حسن على العربة وكأنني علبة آيس كريم، "أنت عارفة، أنا تهت من ماما زمان في البحر، كنت باعوم وطلعت مالقيتش الشمسية بتاعتنا."
حكى لي عن كيف وجدته أمه، وأن ماما تجد دائما الطريق إلينا، علينا فقط أن نهدأ ونثق أنها تبحث عنا الآن وستجدنا، ولكننا لا نريد أن ترانا باكين منكوشين هكذا أليس كذلك؟
سألني عن نوع الآيس كريم الذي أفضله فأجبته من بين الشحتفات "أن أن أنا  باحب ال  ال الليمون"، فضحك وقد بدأ يبلل ملعقته الكبيرة في كوب من الماء قبل أن يكور كورة عملاقة من آيس كريم الليمون. "بسكوتة ولا كوباية؟"، فقلت أني أحب دائما آيس كريم الليمون في بسكوتة. 
لا أدري كم الوقت قد مضى، أعتقد أني لبضع دقائق كنت قد نسيت أني ضائعة في نقطة لم أعرفها من قبل على شاطئ لم أعد أعرف أين هو، فقد كان عم حسن لطيف فعلا، يركب الدراجات بلا سنادات ولا يغادر البيسين قبل الصفارة ويحب السباحة في الغريق.

الجمعة، 8 مايو 2020

هل تمنيت لأحدهم الموت اليوم؟

بدأ الأمر في تانية حضانة عندما أمسكتني مدام ولاء من أذني حتى ارتفعت قدماي عن الأرض شبرا لاعتقادها الظالم أن ياسمين ماجد تبكي إثر لكمة سددتها أنا إليهاز حاولت شرح حقيقة الموقف وأن وجودي في مسرح الجريمة هو من باب المصادفة فلم تسمع. أذكر أن ذلك اليوم, بعد الغذاء وقبل أن أشرب النسكويك, كنت بالفعل قد امضيت خمس دقائق كاملة على الكنبة أفكر في احتمالية أن أدخل المدرسة صباح اليوم التالي لأجد وجوه الجميع واجمة وقد دق الجرس المشئوم, فألتفت إلى إحدى الزميلات على يميني وأسألها فتهمس في أذني "مدام ولاء ماتت".
فعلت الشيء نفسه في رابعة ابتدائي عندما بدأت مدام نادية بمناداتي "ميمونة" حيث أن "مي" في اللغة العربية تعني قردا صغيرا أو أنثى القرد أو أيا كان في عالم الحيوان (مع الاعتذار للقرد وعالم الحيوان, لا أجد الأمر كله مهينا إلا لأنها تعني أن يكون مهينا, أحبكم). لم أفكر آنذاك إلا في حتمية أن تكون مدام نادية امرأة تعيسة تكره نفسها ويكرهها الآخرون وتصورتها وهي تصعد على منصة من خشب كتلك التي كان  يصعد عليها المحكوم عليهم بالإعدام علنا في الساحات في وقت سابق وأذكر أنها كانت تبكي في أسف وتعاسة.
ثم جاء في وقت لاحق, كنت في تانية ثانوي وقتها, سواق التاكسي الأربعيني المتحرش, بلا أي ملامح مميزة لكنه ثرثار مزعج, من النوع الذي لا يتحمل الصمت أكثر من ثلاث دقائق. بدأ حديثه عن زوجته الجميلة القمر والتي عادت من جديد للدراسة بعد انقطاع دام عدة سنوات, فما كان بي إلا أن قلت عبارات من نوع " أوه هايل" و"ياه برافو", ثم انحرف مسار القصة في اتجاه آخر يأتي فيه جارهم الشاب الأعزب مفتول العضلات لمساعدتها في دروسها الكثيرة وحيث أن زوجته لا تستطيع التركيز إلا في غرفة نومها على سريرها فقد كان هذا مكان الدرس الأسبوعي. هنا أذكر جيدا أني أخذت أتأمل الزحام من حولنا وأحسب الوقت المتبقي حتى تنتهي هذه الرحلة اللعينة, كان أمامي حوالي خمسة عشرة دقيقة حتى أصل لمكان درس الكيمياء في ترويمف وقد تخيلت نفسي وكرامتي تبعزق يمينا ويسارا عندما أصل متأخرة لكني وضعت المبلغ المطلوب على الكنبة وفتحت الباب ونزلت عندما خرجت الأمور عن السيطرة وبدأ في الفصل الثاني من حكايته وهو تفاصيل ونوع الدرس بين زوجته والجار الشاب. ليس لدي أدنى فكرة حتى الآن ما كان هذا ولماذا وأي متعة قد حصل عليها بقصته وماذا توقع أن يسمع كرد فعل راكب غلبان ذاهبا لدرس الكيمياء. لن نعرف الإجابة الأكيدة ولكن ما هو أكيد أني أمضيت ما يزيد عن الساعتين أتخيله يجري جريا كاريكاتيري وكرشه يتأرجح أمامه هربا من أحد خزنة أبواب جهنم, يصرخ ويتوسل له أن يتركه لكن الحارس يمسك بكاحله فيرتطم رأس السواق بالأرض ثم يطيح به من فوق سور ضخم وتمضي بضع ثوان ثم أسمع التشششش فور ابتلاعه في الجحيم.
مرت سنوات إلى أن ضحك أحد أساتذتي في الجامعة بازدراء وهو يلقي نظرة على بحث قمت به ثم ألقى به في باسكت الزبالة. أعدت كتابة البحث وأسلمته إياه من جديد, نظر إليه وهو غالبا لا يذكر من فعلته شيئا فلا أظن أنها كانت بسبب ثأر شخصي بيننا, ثم نظر إليّ وابتسم وقد قبل الأوراق. تلك المرة عقلي الباطن قام أوتوماتيكيا بالمهمة فقد رأيت فيما يرى النائم, الأستاذ المذكور مربوطا في شجرة عملاقة ذات أشواك ضخمة وقد أنهلت أنا عليه رميا بالملفات المكتبية الضخمة.
منذ ذلك الوقت وحتى شهور قريبة, لم يحدث أن نشط عقلي الواعي أو الباطن في مجال البحث عن انتقام مناسب, أصبح الأمر مربوطا ببعض البرطمة أو بشتيمة ألقيها هنا أو هناك ثم يتلاشى الموقف برمته إلى صندوق في مؤخرة رأسي أضع فيه ما لا يثير اهتمامي, إلى أن استعدت قدرتي على الانتقام الافتراضي, فحاليا, أتأكد قبل أن آخذ الدواء وأنام أن أتخيل أحدهم وقد شق صدره فسقط منه قلبه على أرض شارع واسع مليء بالمشاة والسيارات, ينبطح أرضا متأوها وهو يمد ذراعيه يتحسس الأسفلت بحثا عن القلب الذي وقع, يجده قريبا فيسارع في الزحف متألما إلى أن يكاد يلمسه بيده فيطيح به أحد المارة غير مكترثا فيتدألج مبتعدا, فيبدأ الزحف للاتجاه المعاكس لتتكرر نفس المعاناة كلما اقترب من قلبه وهكذا في عقاب سيزيفي حتى يشفق عليه أحد آلهة الإغريق ويرد له قلبه أو يقتله.

السبت، 11 أبريل 2020

الحزب النازي المصري

بدأ الأمر كله عندما أتى جوبلز لزيارته منذ عشرة أيام. لم يستضف هتلر و إيفا أحدا سواه لسنين, يأتي دائما وبيده 6 pack من البيرة وربما فيلما لوودي آلان الذي يسخر من نفسه ومن عشيرته اليهود ليضحك هتلر شاتما العالم أجمع. ذلك اليوم, فتحت إيفا الباب لتجد جوبلز ممسكا بجريدة بدلا من البيرة وعلى وجهه أمارات الجد.
أغلق هتلر وجوبلزالغرفة عليهما وقد توسطت الجريدة المكتب, مفتوحة على صفحة بها عنوان "الحزب النازي المصري". لوهلة شعر هتلر برغبة في الضحك لكنه سرعان ما تأثر تأثرا شديدا من رد الفعل المصري لقيمه النازية التي بددها الألمان الجدد الأغبياء, هؤلاء الذين يجدون في اسمه عارا ويحاولون محو تاريخه. استمر اجتماع هتلر وصديقه ما لا يقل عن 6 ساعات ولم يخرج جوبلز من غرفة المكتب إلا بعد أن اتفقا على خطة جديدة.

وصل هتلر صباح يوم الخميس الثلاثين من شهر أبريل إلى ميدان كبير به مسلة طويلة, اتبع مترجلا تعليمات الGPS ليجد نفسه أمام مبنى كبير بألف شباك ولا يقل عن 14 دورا. طبقا لتعليمات جوبلز, سيجد قائد الحزب النازي المصري السيد علي عبده  في هذا المكان والحقيقة أن المبنى لا بأس به كمقر للحزب, لطالما كان واثقا أن النازية ستستمر وهذا دليل على أنه كان محقا وما زال على حق.
دخل هتلر والجريدة في يده, يمشط شعر شنبه بإبهامه ثم يمرر كف يده على شعره اللامع وهو ينظر حوله في زهو..هل يعقل أن لمصر هذه القاعدة المهولة من النازيين؟ كل هؤلاء البشر مختلفي الأشكال والأحجام يؤمنون بما دعا إليه لسنوات؟ 
أخذ يبتسم للمارة الذين يحدقون به ويحييهم بيده وهم يضحكون في وجهه, يالهم من تابعين أوفياء.
أخذ يدور باحثا عن مكتب السيد علي عبده يمينا ويسارا لكنه لم يعد مسيطرا على حركته, أصبحت موجات البشر تحدفه يمينا ويسارا وترفعه من على الأرض وتقذف به بعيدا في ديناميكية غريبة لم يستطع فهمها.
قرر أن يسأل عن مكتب القائد الأعلى ليقابل بضحكات لا معنى لها وأسئلة وجودية عن ما يريد وقالك فين وأشياء أخرى لم يستطع إستيعابها تماما. نصحه أحدهم أن يقف في الطابور في صمت ويجهز أوراقه, فضحك في تواضع مصطنع أنه لا يحتاج لذلك كله, فقط أبلغوا السيد عبده أن هتلر هنا. نظر إليه الرجل ضاحكا في قلق "هتلر آه..لا اطلع الدور الرابع بقى".
ربما يظن المرء أن الطلوع للدور الرابع أمرا عاديا, أو هكذا ظن هتلر, لكن لم يكن ذلك بالأمر الهين, فأثناء صعوده السلالم داس على قدمه ما لا يقل عن أربعة مواطنين أشقياء بينما ركله أثنان آخران وقلد مشيته شخصا وهو يأمره بالإسراع لأن مصر كلها خلفه. نظر هتلر خلفه ولم يستطع تبين إن كان ذلك صحيحا, لكن يبدو كذلك فمصر كلها هنا, وقبل أن يمنحه الكون فرصة لينظر أمامه من جديد انكفأ على وجهه لتصطدم جبهته بدرجة السلم ويسيل منها خيطا رفيعا من الدم, أعطاه شابا منديلا غارقا بالعرق كان يمسكه بيده ليسمح رأسه به وقد بدأ هتلر يشعر بالاختناق. أخذ يترنح ممسكا بالدرابزين ليقع في حجر بائع أقلام بفترش الطرقة, يعرض عليه الرجل أقلاما زرقاء وهو يقسم له أنه سيحتاجها وسيندم إن لم يشتر, فسأله هتلر وهو يمسك برأسه إن كان يعرف مكان علي عبده فيضحك الرجل كاشفا عن سنتين وحيدتين في فمه وصدرا يعج بالتراب والمرض "مش تقول كدة من الصبح؟" ثم بصوت عال وكأنه في غيط أبيه ينادي على علي ليأتي شاب شديد النحافة, يبدو على وجهه آثار سوء التغذية والحشيش, يضع تحت ابطه صينية وهو يعد جنيهات في يده ليخبره البائع إن الباشا كان عايزه فيطلب علي من هتلر ألا يؤاخذه, سيعد الشاي لمدام عفت ويلم طلبات الإفطار من الدور ويعود إليه حالا.
أخذ هتلر ينظر إلى شبشب علي عبده وهو يزحف مبتعدا وإلى العنوان الذي أعطاه إياه جوبلز وهو يفكر في أن اليوم ربما يكون من أسوأ أيام حياته بعد معركة الثغرة. قائد النازية المصرية لا يمثل سوى كل ما ترفضه القضية والانتخاب الطبيعي حتى, ومقر الحزب النازي المصري, أمله الأخير, لا يصلح إلا لأن يكون معسكرا لاعتقال من فيه وحرقهم أحياء.
ترك هتلر نفسه للتيار البشري كريه الرائحة ليرميه في كل الاتجاهات دون مقاومة حتى لفظه خارج المبنى.

رفض هتلر الرد على مكالمات جوبلز وقضى بقية يومه في القبو ينظف مسدسه إلى أن تركت إيفا المكرونة على النار مسروعة وتوجهت إليه بعد سماع الصوت المدوي لتجد جثته على الأرض.

الخميس، 21 نوفمبر 2019

دليل السيد/ السيد حامد للبقاء على قيد الحياة

كيف استطاع السيد/السيد حامد البقاء حيا حتى الآن؟

لا علاقة لهذا السؤال الاستنكاري التعجبي بشعره الذي يشبه سحاب اليوم المشمس أو بالبقع الداكنة على يده شديدة البياض والكرمشة. ربما له علاقة غير مباشرة بأنه لا يسمع جيدا, أعني أنه بالفعل قد أخبرني بهذه الحقيقة بعد أن طلبنت منه نزول النفق, والذي - كما هو واضح- لم ننزله.
 ربما ارتباط الحقيقة السابقة بملاحظة لاحقة, وهي أنه أغلب الظن لا يرى كما ينبغي أيضا. كثيرا ما نغمض أعيننا عندما نستشعر الموت قريبا, مثل أن يقفز أحدهم من على الرصيف ليقذف بنفسه في منتصف الطريق أمام السيارة التي تبعد عنك مائة متر, لكننا لسبب خفي نؤمن أننا حين نفتحهم سنجد هذا المار ملعونا أو مشتوما لا قتيلا غارقا في الدماء على الأسفلت. 
مع السيد, المغامرة أشد إثارة, فهو لا يرى تماما, أعتقد أن حاله كحالي قبل الليزك. ينظر إلى الأشياء كفكرة مجردة, يستشعر روح الشارع لكنه لا يراه بالضرورة. مع ذلك يجب القول أنني لم افكر لثانية أن أعمل سائقا لأوبر قبل الليزك.
يتحرك السيد بثقة دليل الصحراء الذي يحفظ منحنيات الجبال وكأنه ولد بها رضيعا, آخذا غرزة هنا ثم أخرى هناك, بينما تفكر أنت وقد التصق خدك في الزجاج في معنى "إنا إلى ربنا لمنقلبون" وإن كان هذا الدعاء حرفيا مناسبا للأحداث.
يذكرني السيد حامد بالطفل في " Baby's day out". منطقيا وبشكل علمي, كان الفيلم لينتهي في أول نصف ساعة عندما يبدأ الطفل محاولاته الانتحارية في الشوارع والمواصلات ومواقع البناء وأكياس الخضار, لكنه دائما ما يخرج من بين الأنقاض حيا مبتسما غائبا تماما عن حقيقة أنه كان سيصبح قطعة من اللحم الميت لولا ملاكه الحارس الذي يرتعش جناحاه من جرعات الكافيين المركزة التي تبقيه يقظا لإنقاذه.
في النهاية, عندما أصل العيادة متأخرا نصف ساعة لأننا لم ننزل النفق, أتمنى ألا يتخلى الملاك الحارس عن السيد السيد حامد, فقط أتمنى أن ينصحه بعملية الليزك.

الخميس، 7 نوفمبر 2019

يوميات الحاج إسماعيل كامل

يستيقظ الحاج إسماعيل كامل كل يوم في السادسة, لم تستطع زوجته المغفور لها الحاجة سميرة تغيير هذه العادة عند طلوعه على المعاش ليبقى الحال على ما هو عليه.
يتحسس الحاج إسماعيل ساعة يده التي يضعها على الكومودينو بجانبه كل صباح مزهوا بدقة ساعته البيولوجية. في بداية كل يوم, يبقى ممدا على ظهره في السرير منتظرا خروج سميرة من الحمام ليدخل هو, لكنه سريعا ما يتذكر فيقرأ الفاتحة ويمسح على وجهه بكفيه. في الشتاء, يربط بإحكام حزام الروب الأزرق الكاروه حول جسده الآخذ في النحول وهو يشعر أن ربما ليلى معها حق حين تنظر إليه في حسرة مشوبة بالغضب قائلة "أنت مابتاكلش خالص يا بابا".
دائما ما ينسى نظارته المربعة ذات الإطار الذهبي ويتسائل في تعجب وقلق حقيقين, لماذا لا يرى الأشياء مع أنها بالقرب الذي يمكنه من لمسها بطرف أنفه إن أراد؟
 يرتدي نظارته في امتنان ويبدأ في لعبته المفضلة, اختبار نظره, قارئا أكثر السطور ضآلة في جرنال اليوم ثم يخلعها ناظرا إليها مصدقا أن "الإنسان عمل كل حاجة".
يمد يده إلى الراديو ويرفع الصوت إلى الحد الذي يؤنسه في المطبخ, وفي الوقت نفسه لا يزعج الدكتور عبد الحميد جاره الذي يقابله كل ثلثاء ليلا للعب الطاولة وهو يفكر كعادته اليومية "يا ترى فين الترانزيستور؟".
يضرب كفا بكف وهو يشم طبق الجبن القريش بالطماطم الذي تعده له أم ريماس وتتركه في الثلاجة بعد أن تنتهي من غسيل المواعين وترتيب الشقة. يجد الحاج إسماعيل أكل أم ريماس يبعث على البؤس لكنها طيبة, وربما تكون هي من أخفت الترانزيستور, فهي ترمي ما يعوق طريقها في أي درج, حتى أنه وجد سيارة سليم الحمراء الصغيرة بين جواربه.
كان هذا الترانزيستور بداية كل ما يفخر به الحاج إسماعيل, فهو يحكي لحفيده المبهور بالاختراعات العلمية والذي كاد يحيل البيت إلى رماد في إحدى تجاربه الفذة قصته مع الراديو. 
بدأ الأمر عندما جلست عمته على الكنبة بجانب الشباك, تخبط بيدها على الراديو لكنه لم يصدرغير ترددات مبهمة لا تلتقطها الأذن البشرية غالبا, فسهر عليه ليلة كاملة حتى صدح صوت الست منه ليلة الخميس أخيرا فما كان من عمته إلا أن دست في يده ما يعادل مصروف شهر كامل مما يدفع أبوه, فأخذ يعرض خدماته على عماته وأخواته وأصحاب والده لإصلاح أي راديو مهما كانت مشكلته حتى صنع إسماعيل بنفسه راديو صغير تستطيع بالفعل سماع أخبار جمال عبد الناصر من خلاله, وهو ما قاده بعد ذلك في وقت لاحق إلى رحلة عمره: منحة لندن, والتي من وقتها أصبحت مقياس الزمن,  فإذا ما حاول تذكر حدثا من أحداث حياته تسائل "دة كان قبل لندن ولا بعدها؟".
منتظرا غليان الماء على النار ليشرب الشاي باللبن, أخرج الإناء الفخاري الصغير وملأه بالأرز وذهب إلى البلكونة, نقر على الزجاج نقرتين قائلا "أنا جيت" ليقبل اليمام ويستقر حول الإناء على أطراف كرسي البلكونة التي لا تطأ قدما سليم الأرض حين يجلس عليه, يراقبهم وهم يدسون منقارهم في الطبق ويحركون رقبتهم بشكل يضحكه ثم كالعادة يشم رائحة الغاز ويتفاجيء -كالعادة أيضا- قائلا بصوت عال وهو يركض نحو المطبخ "يا خبر أبيض, البوتجاز!".