الخميس، 18 نوفمبر 2010

الأطلال

من منا يتوقع ان تتغير حياته و أيامه و مصيره و مستقبله فجأة فى لحظات .
على كل حال انا لم اتوقع  , و للأسف فى أغلب الأوقات يحدث ما لا نتوقع و لا يحدث ما نتوقع...تلك هى سخرية القدر و اخراجه للسانه فى وجهنا .
بدأ الأمر كله ذلك اليوم , يوم رجعت الى بيتى منهكا , و صعدت السلالم  محضرا مفاتيحى فى يدى حتى أدخل من فورى و أرتمى على السرير و أنام حتى موعد الغذاء. كنت قد جلست فى حافلة المدرسة و انا افكر طول الطريق فيما قد تكون أمى قد جهزته للغذاء .
بحركة اوتوماتيكية كنت أمسك مفتاحى فى وضع الدخول فى القفل , و كم كانت مفاجأتى حين وجدت باب شقتنا مفتوحا على مصرعيه .
زحمة من الأشخاص وجوههم مكفهرة محمرة تعسة...جموع بالداخل و لكن أين أمى؟ أين أبى ؟
لم أتعرف على أحد..حتى وجدت زوج خالتى  , أخذ يربت على كتفى و هو ينظر الى فى عينىّ , ثم فجأة أجهش بالبكاء و ارتمى فى أحضانى و كأننى أمه ..وقفت متسمرا ثم قررت تجاهل الحشد و التوغل فى البيت بحثا عن أمى..أين انت؟!
فكرت فى المطبخ , ربما تعد الغذاء و يساعدها أبى . وجدت جارتنا سميرة و قد شهقت حين رأتنى..ما بالكم أيها البشر..هل أنا مخيف لهذه الدرجة؟!..يبكى زوج خالتى حين يرانى و تشهق جارتنا فور رؤيتى؟!
استمر التجاهل و استمر معه البحث . لم يتبقى غير مكان واحد معقول .
و كأن الجموع لا تعنيني , اتجهت الى غرفتهما .. اطرق الباب , فلا يجيب أحد...أحاول فتحه فاذا به لا يفتح ...ما الأمر ؟ ماذا يحدث بحق السماء ؟
ظللت احاول و احاول و لكن عبثا حاولت..حاولت ان اكسر الباب بلا فائدة..لم يعد أمامى الا اللجوء الى الطرق على الباب فى يأس كالسائل الذى يبحث عن مأوى فى ليلة عاصفة .
أطرق الباب طرقا و لا اجابة , عشر دقائق..عشرون..خمس و عشرون..لا أكف عن طرق الباب .
دار مفتاح فى باب الغرفة ببطئ ثم فتحت.
اذا بى اجد أمامى وجه امى باكيا منتحبا شاحبا و فى عينيها حزن .
اخذتنى عنوة فى حضنها..و لاول مرة لا أريد ان تحتضنى أمى , ابعدتها عنى , و دخلت داخلا الحجرة .
أبى ممدا على سريرهما...لا يبدو لى نائما و فان كان كذلك ,لهربت الجموع بسبب شخيره المزعج العالى.
لا شخير...لا حراك.
و للمرة الثانية اتسمر فى مكانى.
نظرت لأمى نظرات تنم عن الدهشة و اللاشىء..حقا لم اشعر بشئ..لا شئ..سوى القليل من الدهشة .
تركت الغرفة بعد ان تأكدت من اغلاق بابها من خلفى و دخلت الحمام..المكان الوحيد الذى لم أجد فيه أحدا .
رأسى يؤلمنى بشدة , انه يستشيط , لا احتمل الحرارة...دخلت فى حوض الاستحمام , بكامل ملابسى , و فتحت الصنبور..تدفق الماء على رأسى مثلجا و استمر فى الانهمار.
                                                                             ****
رجعت منهكا و صعدت السلالم محضرا مفتاحى فى يدى...
وجدت أمى فى انتظارى , قبلت وجنتيها و طلبت منها ان توقظنى بعد ساعة كى اكل و اذاكر , نعم يجب ان اذاكر.
دخلت غرفتى  , و ارتميت بزى المدرسة فى سريرى .
لقد أطعتك , سأنفذ لك ما أردت...اردت ان يكون ابنك الدكتور فلان مثل ابناء خالتى , لك هذا.
تنازلت عن مشروع الطيران الذى كان مسيطرا على تفكيرى و ابتلعت فكرة الأحياء و الكيمياء و الفيزياء...
لاحظها الجميع , اصبحت منضبطا فى المدرسة , طالبا نموذجيا كما يقولون , بارع فى المواد العلمية...
                                                                             ****
أمى فى زيارة لخالتى...وحيد بالبيت , دخلت غرفتهما محاولا تذكر ملامحا , فانا لم ادخلها منذ خرج أبى منها تقريبا.
مازالت كما هى..لاشىء مختلف , لا شىء مضطرب , حتى و لا رائحة الفرفة..مازالت ودودة محببة و مألوفة .
انها الخامسة , موعد أم كلثوم المقدس...كان يعشقها عشقا , حتى كانت أمى تغار منها .
لم أكن قد سمعتها سوى مرتين تقريبا و لكنى لم افهم شيئا , كنت صغيرا .
وجدتها تبدأ غناءها..لاول مرة اسمعها بتمعن و أشعر بها , لأول مرة أقدرها , لاول مرة استمتع بها...
" يا فؤادى رحم الهوى 
                          كان صرحا من خيال فهوى
اسقنى و اشرب على اطلاله
                          و ارو عنى طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب امسى خبرا
                          و حديثا من أحاديث الجوى "
بكيت..اجهشت بالبكاء , و انهمرت دموعى و علا نحيبى .
كانت تلك أول مرة أبكى فيها منذ فتحت أمى باب غرفتهما و رأيته ممدا على سريرى .

الجمعة، 5 نوفمبر 2010

وأكلت المعكرونة و بكيت

! معكرونة من فضلك

تشعرنى بالسعادة ,تذكرنى به دوما...كان يأكلها يوم رأيته أول مرة...
تعثر و تلعثم بكلمات غير مفهومة مادا يده اليمنى غير النظيفة وهو يمسح ما علق على شفتيه و المناطق المجاورة لها من بقع الصلصة.
كنت فى غاية الاحراج , لم أكن اعرف سواها..عندما لمحتنى اكل فطيرتى مندسة فى ركن من اركان المطعم بمفردى , اصطحبتنى الى طاولتهم...اربع كراسى شبيهة بالكرسى الذى جلست عليه , تشغلها فتاة صدقيتها و فتى و هى..و هو.
لم أره بعدها تقريبا..لم أره سوى فى حفل خطبتهما..هى و هو.
كانت تتحدث عنه كثيرا و لم أعرف انه هو نفسه اكل المعكرونة .
حرصت على حضور الحفل حتى لا أثير الشكوك أو بالأحرى حتى أراه.
كان أنيقا و قد خف شعره و حلق ذقنه و زادت الpapillion من ملامح الطفولة فى وجهه..كان يبدو - للأسف - سعيدا و تلك الساذجة أيضا , كانت تبالغ فى انشكاحها و كأنها أول و اخر المخطوبات و كأنه سيحتملها للأبد و يبقى بجانبها حتى عندما تصبح عجوزا شمطاء بطيئة الحركة و الفهم و الملاحظة , مجعدة  الجبين و الرقبة , مكرمشة اليد , بشعر رمادى خفيف.

ها هى المعكرونة الرائعة...لا أكاد أراها حتى أدب شوكتى فى قلبها و كأنى أطعنه..بل أطعنها هى...
كلما لامست تلك الخراطيم المعكرونية الناعمة لسانى تذكرت وجهه يوم رأيته فى المطعم , و كلما تذكرت ذلك اليوم , تذكرت اليوم البائس الذى اعطى لعلاقتهما اسما...حقدت عليه و على الساذجة ..
دببت شوكتى من جديد فى الطبق , مغلولة , مكتومة الدمع فأشفقت لحالى - و أخيرا -بكيت .