الخميس، 23 يناير 2014

ريكشا

أهم ما يميز الهند, بالنسبة لى على الأقل, هو الريكشا. ذلك الجسم المعدنى الصغير المتشبه بالخنفساء, يبدو كدراجة نارية بثلاث عجلات, مغلق السقف مفتوح الجوانب, تشعر أنه سيقذف بك خارج أحشائه فى لحظة انطلاقه. نسميه هنا "توكتوك", وقد كنت مقتنعة تماما أنه يبدو "توكتوكا" بالفعل, بحجمه الضئيل و تحركه الظريف متمايلا فى خفة بين السيارات. لكنه فى الهند "ريكشا" و سوف تقتنع أنه "ريكشا" بشكل كاف فور رؤيتك له.
هو وسيلة التنقل الرئيسية فى شوارع الهند. مرخص و يحمل نمرا و له زى رسمى كذلك فالريكشا جميعا شكل واحد و لون واحد, فى الواقع هما لونان: أخضر فى أصفر.
فى مدينة كبيرة متحضرة كمومباى, تجد سيارات الأجرة ذات الأحجام المتفاوتة و الموديلات المختلفة, لكنك إن امضيت وقتا طويلا فى الهند - مثلى- ستعرف دهاليز مومباى و خفاياها وسوف تعرف أنها ليست متحضرة بالكامل. عشوائيات الهند لا تستقيم أحوالها دون ريكشا فتجده يجوب الشوارع الفقيرة و القذرة فى حركات مستهترة سريعة و غير مدروسة مثل مجموعة صراصير تهرب من البايروسول.
أما الحال فى أنحاء أخرى من الهند فمختلفة.هنا فى مدينة سورات الخضراء الصغيرة حيث أعيش الآن, لا تجد التاكسى, فقط ريكشا فى كل مكان. و بما أنه الوسيلة الرسمية للموصلات هنا, فهو مجهز بعدّاد يفترض أن تدفع على أساس قرائته ثمن التوصيلة, و لكن المفترض ليس بالضرورة ما يحدث فى الواقع أغلب الوقت, فنحن نعامل معاملة السياح, استغلالنا واجب قومى, فلا تجد للعداد عملا فى وجودنا, و اذا طالبنا بتشغيله أنزلنا سائق الريكشا و تركنا نضرب رأسنا فى أقرب حائط و لا يقف الأمر عند هذا, بل يذهب ليتآمر مع زملائه. لم نستسلم من الوهلة الأولى لكنهم يتبعون خطة شريرة و يرفضون رفضا جماعيا باصطحابنا دون أن ندفع ما حددوه من الروبية فنذعن لإرادتهم متأففين مهزومين مطلقين اللعنات و الشتائم بأكثر من سبع لغات.
تأكيدا لإيمانى الدائم بأن البشر أخوة و أننا جميعا ينبغى أن نتعامل على أننا سكان كوكب الأرض كلنا, فقد كان سائق الريكشا لا يختلف كثيرا عن سائق التوكتوك. فمنذ ركوبنا, قرر السائق تقديم التحية لمحو شجاراتنا حول الأجرة و العدّاد. لمسة خفيفة على ما اكتشفنا أنه كاسيت لتندلع منه أصواتا هندية رفيعة جدا, مزعجة و مسلية مثل المهرجانات, ولم تمضى بضع ثوان حتى اندمج مع الكلمات الحكيمة للمهرجان الهندى و أخذ صوته يعلو و يعلو و هو يتحرك يمينا و يسارا بالريكشا. وبينما لم يستسغ الجمع الأجنبى حركات السائق المرحة, كنت أنا سعيدة بحق و أدركت سبب عدم شعورى بالحنين المتوقع قبل السفر.
إبان رحلتى التى استمرت ما يقرب الشهرين, لم يؤثر فى حياتى اليومية كما أثر سائقو الريكشا الهنود, منهم اللعين و منهم الحكيم و منهم قليل الأدب الذى يستحق التهذيب و منهم من يعرض المساعدة مهما كلفه الأمر..ربما فى وقت لاحق, سيظهر كاتب لطيف ليقص حكاياته معهم مثلما فعل خالد الحسينى فى "تاكسى".
أول مرة أركب فيها الريكشا كانت فى اليوم الثالث من وصولى سورات. أخذنى بادى و جنيفر صديقاى الصينيان إلى المكتب لألتقى بباقى الزملاء.
يقع المكتب فى مكان اسمه "عمرة" أو كما كُتب على البطاقة "Umra Garden". منذ وصلت الهند حتى غادرتها لم استطع أبدا حفظ الطريق إلى المدعو "Office", لا أعرف أننا اقتربنا منه إلا عند رؤية ذلك الميدان الصغير المكسى بالحشائش و الورود الصغيرة.
شارع المكتب هو شارع جانبى لطيف حيث تستقر بيوت هادئة ذات سيارات فى الجراج و حديقة صغيرة و شجرات.
المكتب عبارة عن طابق واحد, أصل إلى بابه بعد بضع درجات أطلعهم فى نشاط, أخلع حذائى على الباب كما هى عادة الهنود و أدخل لأفاجىء -أخيرا- بمطبخ المنظمة : "المكتب".