الأربعاء، 9 يناير 2019

السيرة الذاتية لمحلول عدسات لاصقة

لم تتحمس في باديء الأمر لمغادرة مكانها في تلك الصيدلية  رغم أن دكتور هاني كثيرا ما كان يوقعها أرضا وهو يمد يده لتناول عبوة من عبوات محلول العدسات اللاصقة القاطنة بنفس الرف بل أنه أحيانا لا ينتبه إليها وهي تأن من ألم السقطة على الأرض الباردة ويلاحظها فقط عندما يمر إلى الحمام فيصطدم بها بوز حذائه الجلدي فينحني متأففا ليتقطها ويرجعها على الرف. وعلى الرغم من ذلك هي تعرف الكثير عن طيبته من صديقها جهاز الضغط الذي يقبع في الدرج المظلم أسفل الرف الذي تسكن به مع زميلاتها القواربر, فقد حكى لها كيف كان دكتور عيسوي يعامل علب الأدوية حتى أنه قال لها أن في مرة قذف بعلبة أوجمانتين رقيقة بعنف. ربما يبالغ الجهاز في وصف بشاعة دكتور عيسوي فالتجويد في قص الحكاية ليست سمة من سمات الإنسان وحده.
بدأ الأمر برنين جرس التليفون, وهو شيء معتاد في هذه الصيدلية حيث يتصل العملاء المرفهون الكسالى من بني آدم لطلب أتفه الطلبات فيجمعها دكتور هاني -متأففا أيضا- ليضعها أحمد في كيس عليه اسم الصيدلية ويتمختر بموتوسيكله مميز الصوت الذي يشعرك أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة  ليوصلها إليهم ويعود بالنقود وقد أخذ ما فيه النصيب من فكة.
هذه المرة, بينما كانت عبوة العدسات اللاصقة تتثائب في ملل, أمسك دكتور هاني بعنقها بلا اهتمام ليضعها جنبا إلى جنب مع زجاجة شامبو بلاستيكية ملونة. نظر الشامبو إلى المحلول نظرة ذات مغزى قبل أن يضعهما أحمد في الكيس. كانا يعلمان أن أيامهما في هذه الصيدلية قد انتهت.
اختطلت المشاعر بعض الشيء على القارورة وهي تستحضر ذكرياتها مع صديقاتها من القوارير أثناء الصناعة والتعبئة والنقل وقد أصابها الحزن لعدم تمكنها من وداعهن كما ينبغي إلا أن رفقة الشامبو كانت خير عزاء لها.


                                                                             ******

فتحت عيناها لتجد نفسها في غرفة لطيفة, مركونة بجانب كثير من الكراكيب المختلفة من شورتات ملونة, مايوه حريمي رقيق برتقالي اللون  وآخر رجالي كاروهات لم يعجبها, كوتشينة, Ipad, شواحن لا تعرف لأي أجهزة هي, عدسات لاصقة مغطاة في جرابها البلاستيكي, وفستان أخضر قصير جدا لا تسطع تخيل كيف قد تلبسه إنسانة دون أن تظهر مؤخرتها للجماهير.
استلقت على سرير غير بعيد عن الأرض حقيبة سفر مفتوحة على مصرعيها تضع فيها فتاة ذات بيجامة كاروهات -لا تعرف سر حب أهل البيت للكاروهات حقيقة- بعض الأشياء بعناية وترتيب.

-أخدت غيارات كفاية؟
تساءلت الفتاة. لم يرد أحد.
 رفعت صوتها حتى أيقظت الشامبو فزعا وهي تكرر:
-أخدت غيارات كفاية؟ أنا هاقفل الشنطة خلاص.

ثم لاحظت قارورة محلول العدسات اللاصقة والشامبو فأخذتهما ووضعتهما بين فوطتين في منتصف الحقيبة وأغلقتها بإحكام.


                                                                           ******


أخذت القارورة  لحظات, تنظر حولها في تعجب وقلق قبل أن تتذكر رحلتها من الصيدلية إلى..ما هذا المكان؟ أين هي؟ نظرت حولها في هلع حتى همس لها الشامبو في هدوء أن تنظر من الشباك.
كانت تلك أول مرة ترى فيها البحر, لم تعرف غير زرقة أرض المصنع, أما هذا فلا يشبه أي شيء آخر على الإطلاق. هذا سحر خالص.
تمنت كثيرا لو أن صديقاتها كن هنا يشاركنها هذا المشهد, هل رأى دكتور عيسوي البحر؟ ها شاهد هذا المنظر من قبل؟ 
لا تظن. لا يمكن أن يرى إنسان هذه الدرجة من الأزرق ويكون بهذه القسوة. مسكين دكتور عيسوي, ربما هو فقط بحاجة إلى رحلة بحرية.


                                                                         ******


لفترة طويلة, تساءلت القارورة عن سبب وجودها وتصنيعها الذي لم يكن ذا معنى كما صُّور لها, إلى أن رأت البحر. أدركت أن كل شيء يحدث لسبب ما, فقد صُنعت لتنقل إلى تلك الصيدلية فيطلبها هذان اللذان بدورهما اصطحباها معهما إلى ذلك المكان الجميل المطل على أكثر الأشياءإبهارا وأن هذا الرجل يعاملها بلطف شديد, فلا يضغط عليها ولا يرميها بعدم اكتراث بل يضعها في مكانها بعناية بعد أن يتأكد أنه أغلقها كما ينبغي. يا له من جنتلمان.
أخذت القارورة أياما تتحدث في حماس مع صديقها الشامبو في أهمية الإيمان, فإذا آمنت حقيقة وبصدق بأن الآت سيأتي جميلا فسيأتي جميلا وكيف أن كل شيء يحدث لسبب  في وقت معين وهو أفضل وقت. يالصنع الإنسان و و و..إلى أن لاحظت حركة مضطربة وسرعة غير معهودة في حركة الثنائي اللطيف وهما يبرمان في المكان جيئة وذهابا, يلملمان أشياءهما من هنا وهناك, يضعاها بزهق في الحقيبة ويغلقانها, ينظران تحت السرير وفوق الدولاب, تدخل الفتاة إلى الحمام مرتين لتتفقد الوضع بينما يُخرج هو الحقيبة إلى الخارج وتلحق به زوجته.
 يدخل مرة أخيرة, ينظر مطولا إلى القارورة المتروكة على الترابيزة العالية المطلة على الشباك, يقترب منها ثم يبدل رأيه ويتركها كما هي ويغادر مغلقا الباب خلفه بإحكام.



هناك تعليق واحد: