السبت، 13 ديسمبر 2014

حمام

     
أستاذ حمام, بهيئته الرثة, بدلة مهترئة لا أذكره إلا بها يبرز من تحتها جاكيت صوف ملون يحمى قلبه من الصدأ وطربوش قديم يحاول الحول بين رأسه والبلاوى اللى نازلة ترف عليها, يدرك أن المصايب تبحث عنه بكل اشتياق مثل العاشق المهرى ما يدور على حبيبته وأنه كدة حظه كدة. لا أستطيع أن أمنع نفسى من حثه على دخول قصر بنت السلطان,
ينظر إلى فيلا مراد باشا بذهول ويقارن نفسه ببلاط المدخل ليجد أنه أكثر منه هنداما, فيمسح حذائه فى بنطاله فى يأس وبتقدم. لا أعرف إن كنت قد دفعت به إلى تهلكة أم إلى جنينة تتجول فيها ليلى هانم ناشرة عطرها الذى لفح عقله و تسرب من بين أزرار الجاكيت إلى قلبه المتعب الثقيل. أتنفس الصعداء وأنا أراه حليق الذقن, مفرود الشعر, تبرز بدلته الجديدة الأنيقة لمعان عينيه زهوا بأنفاسه الحرة التى أخيرا استطاع استنشاقها دون خوف أو حساب ما تبقى من قروش فى جيبه المثقوب. ألاحظ يد ليلى ترتاح على كتفه فى رقة وهى تغنى, تعدل له الكرافات وتمتد بخفة لتنتشل ما يشوب نقاء قلبه فيخرج وردة من الفاظة ويدخلها فى عروة الجاكيت وهو يبتسم, لأول مرة بلا خوف مما ينتظره بعد قليل من سوء حظ. يستمع إلى ليلى تغنى وتقول إن الدنيا غنوة نغمتها حلوة فلا يستهزأ ولا يغيظه التشبيه فيندهش من نفسه ومن إيمانه الجديد بأن الدنيا جميلة, فأفتح له النافذة.
"بيفوت على العين ويصحيها من عز النوم, ويفوت على الروح ويطير بيها"
فيترك أستاذ حمام كتاب روميو و جوليت من يده و يترك روحه لتطير فيجد نفسه أسفل شرفتها, يتحدث إليها وقد جرى الكلام على لسانه وأمده شعاع القمر بالجرأة.
"هتركب؟"
فيجيب اركب, بعد هددته وقد وجد هو تهديدها جميلا محمودا وإن لم يستطع منع نفسه من الاحساس بمصيبة جياله.
حذًرته من الاستمرار فى هذا الطريق, أخربته أن التراجع والاكتفاء بهذا القدر من لطف القدر خير له فلم يستمع إلىّ و سلم طربوشه اللى معندوش غيره على باب الملهى الليلى منقادا وراء ليلى التى تركته لتحضن حبيبها. يجلس أنور وصديقته ليلى على طاولة, يمسك يدها بكلتا يديه وتنظر هى بوله إلى عينيه المبتسمتين بينما يظل أستاذ حمام فى مكانه, يقف بلا حراك أمامهما يسمع غير مصدق كلمات لم يظن أنها قد تخرج من بين شفتيها إلا إلى أذنيه.
أراقبه فى حزن وهو يدافع عنها وهو يستعين بالطيار الذى استوقفه فى الشارع لينقذها من أنور بتاع اللى قبلها واللى قبل اللى قبلها ويهرب منه ليقع فى قبضة يوسف وهبى الذى ينظر إليه من طربوشه العجوز إلى حذائه الذى تبدل لونه فيدير وجهه متحدثا إلى بنت الباشا. ألاحظ انطفاء لمعة عينيه وهو يرد على كلام يوسف بيه وهو يشرح ويستفيض ويفترض أنه مثلا مثلا يحب ليلى هانم من صميم الوجدان وأن هى مع الأسف الشديد تحب شخص آخر فتلقى فى وجهه ردا قاسيا قائلة "وأنا كنت عميت؟".
"ضحيت هنايا فداه وهاعيش على ذكراه"
تنهمر دموعه فأربت على كتفه وأنا أفكر فيما يمكن أن يخفف عن العاشق السىء الحظ.
"أبيع روحى فدا روحى"
أمسكه من يده وأخرج به من جو المسرح القاتم إلى الهواء الطلق لتلحق به ليلى. يركبان مع الطيار وحيد زوجها المستقبلى, يعوج طربوشه فى هدوء ويبتسم لى و يهز رأسه فيما يشبه الرضا.