الأربعاء، 31 أكتوبر 2012

مساء يوم ممطر

يرن هاتفه المحمول فى جيب الجاكيت الجلد الأسود الذى خلعه لحظة دخل السيارة و أغلق بابها عليه محاولا عزل صوت الأمطار من حوله فى أحد شوارع مصر الجديدة المزدحمة.
اهتم بمعرفة المتصل و لكنه لم يجب..لا ينقصه الا ذلك اليوسف الذى يفلق دماغه نصفين بأحاديثه المملة الممتدة عن ذكرياته فى كليه الطب و المنحة التى كاد يحصل عليها حتى تدخل أستاذ النساء و الولادة ليقحم اسم ابنته الطبيبة الفاشلة فتسافر هى الى امريكا و يبقى هو و عن تلك الفتاة الممشوقة القوام التى تلاحقه اينما ذهب وتحاول لفت نظره و عن و عن...
فتح النافذة فانهال الماء الى داخل سيارته الجديدة فأغلقها و هو يسب و يلعن..تدهورت الفاظه منذ عاد الى مصر , حتى انه  أصبح يتفوه بتلك العبارات القذرة أمام ابنه تلقائيا و لا يجد اجابة حين يسأله ابنه عن معنى ما قاله للتو .
هو يجد الشتيمة شئ ايجابى رغم كل شئ..شئ صحى يسمح لك بتفريغ طاقتك السلبية دون ايذاء يذكر..يتذكر ابنه و يحمد الله انه لم ينجب بنتا.
تذكر ان الغد موعده الأسبوعى لرؤية عمر ابنه ذى السنوات العشر. أعد له هدية تفوق توقعاته و قرر ان يهديها له فى عيد ميلاده , لطيف ان يكون عيد ميلاد ابنك قبل عيد ميلادك بثلاثة أيام , فهكذا لا ينسى ابنك أبدا عيد ميلادك , حتى و ان لم تكن تعيش معه فى بيت واحد.
كاذب من يقول انه نسى عيد ميلاده , كيف ينسى المرء يوما كهذا..الذكرى السنوية لبداية المعركة اللاارادية.
أخرج من جيب الجاكيت ولاعته الذهبية و علبة السجائر , أشعل سيجارة و هو يتأمل الولاعة.
تذكر يوم أهدته شيرين تلك الولاعة , كان ذلك فى عيد ميلاده منذ ثلاث سنوات..كان ذلك بعد الطلاق مباشرة.
لم تكن ترحب بفكرة التدخين و لكن رسالتها كانت واضحة , كأنها تقول له " حيث أنك أصبحت تعيش بعيد عنا , دخن هذه السجائر حتى تحترق رئتاك ."
أخذ يتابع السيارات خارج النافذة فلم يرى سوى نقاط حمراء متلاصقة ترجمت فى عقله انه لن يصل الى بيته فى مدينة نصر بسهولة.
انتابته موجة برد شبيهة بحالة صرع هزيلة..تذكر أكواب الكونياك الزجاجية التى قُدمت له فى ذلك الفندق بروسيا .. تذكر انه لم يتشترى الكونياك قط..اكتفى فقط بال ID Vodka و النبيذ طبعا.
لم يفهم أبدا تلك ال " اشربها ع بق واحد " التى تقال للمبتدئين فى الأفلام العربى , هو شخصيا يفضل شربها على مراحل متلذذا.
عطس عطسة تبعها بالسباب..لا يحب ان يمرض.
سيشرب actifed syrup عند وصوله ..لم يستطع منع نفسه من تخيل نظرات السخرية فى عين يوسف اذا امسك به متلبسا لزجاجة شراب الأكتيفيد , شراب الأطفال الذين يعانون من الرشح و أعراض الزكام , يفضل ان يراه و هو يحتسى الخمر عن أن يراه و هو يشرب دواء ابنه..ثم تخيل أنه يشعل النيران فى يوسف .
استمرت الأفكار غير الهادفة تعلق بأطراف مخيلته حتى دخل جراج عمارته..حذائه غير نظيف , انفه يسيل و عيناه تدمعان..يشعر بحاجة الى الاستحمام للتخلص من آثار الأمطار التى يعتقد انها حمضية و تحمل أتربة مصر كلها اليه و قدح من ال vodka يساعده ع الاسترخاء.
خلع حذائه على باب المنزل , وضعه على سور البلكونة لينظفه من آثار الطين و بدون دراية " اتقلب " حرفيا على السرير و غط فى النوم.

الجمعة، 26 أكتوبر 2012

عم أحمد

ذلك الرجل ذو الستين عاما تقريبا , صاحب الضحكة الطفولية المفرحة برغم تلك الثغرات فى صفى أسنانه..الرجل الذى شاب شعره و تساقط أمام بوابة مدرستنا.
عم أحمد , اول وجه أراه فى المدرسة على الاطلاق , و لم يكن يوما لطيفا رغم ذلك..فأحد أولياء الأمور الذى تحلل عقلهم ذاتيا من الركنة الذين يؤمنون بسلطانهم و سلطتهم اللانهائية و قدرتهم على اهانة هاموش المجتمع , تلك الأعداد غير المؤثرة فى الحياة , هؤلاء الذين يشكلون زيادة لا أحد يرغب فيها..هذا الشخص قد صفع عم أحمد على وجهه صفعة قد تكون سببا فى ازدياد تلك الثغرات بين أسنانه و هذا لأنه رفض أن يسمح له بدخول المدرسة يسيارته الضخمة خوفا على الأطفال المنتشرين بفناء المدرسة يلعبون , مخبرا اياه انها تعليمات الادارة.
بدأت علاقتى الشخصية بعم أحمد عندما تدألجت من على السلم , فكان يسأل عنى يوميا و يأخذ حقيبتى الثقيلة ليحملها على ظهره المتعب , يوصلنى الى فصلى و يبتسم فى وهن مغادرا.
ثم ذلك اليوم الذى وقفت فيه مدام نسرين تصرخ مشيرة بانفعال بأصابع يدها الطويلة التى كادت تطيح بعينى اليمنى فظهر عم أحمد من العدم كالملائكة ليقول لها فى دهشة و هدوء بصوته الذى يشعرك دائما انه كان يبكى منذ قليل اننى "بنت كويسة اوى " و اننى بالتأكيد " نسيت كارنيه الأوتو و بكرة هاتجيبه , صح ؟ " محولا عينيه الطيبتين الى فأحرك رأسى من فوق لتحت أن نعم .
الى ان وصلت علاقتنا لقمتها فى ذلك اليوم الذى يطول الى الرابعة عصرا بسبب نشاطى الكشفى فى المدرسة , حانت الساعة الرابعة..و النصف..الخامسة..فالسادسة..ثم السابعة و لم يأتى أحد لاصطحابى بعد.
نسينى والدى !
و لم ينسانى عم أحمد..احضر لى و له بعض السندويتشات و اشترى لى البسكوت و البونبون . بكيت كثيرا فأخذ يحدثنى عن طفولته و يوم تاه من أمه فى السوق و كيف وجدته يبكى بجانب بائعة الجرجير..قص علىّ كيف تعرف على زوجته و عن صينية السمك الصيادية بالبطاطس الذى تعده حتى بدأت أضحك و أتناسى .
انتظر معى حتى الثامنة الا الربع , حتى جاء والدى راكضا  معتذرا آسفا بشكل محا غضبى منه و خجلى من عم أحمد.
شكر عم أحمد جزيلا و حاول دس النقود فى جيب قميصه الأصفر فرفض تماما متمما بكلمات لم أسمعها .
و اليوم لا أثر لعم أحمد..أبحث عنه فى كل أرجاء المدرسة فلا أجده..أسأل عنه بعض الطالبات فتخبرنى احداهن أن عم أحمد ترك العمل فى المدرسة ليبقى بجانب زوجتة المريضة التى لا تفارق الفراش.
كنت أدعو الله بصدق و اهتمام و قلق راجية أن يكون بخير و أن يشفى زوجته و يعود الينا و لكنه لم يعد.
فكرت مرارا أن اسأل عم سالم زميله على بوابة مدرستنا عن أخباره و لكنى تراجعت خوفا من الرد الذى قد لا أحب أن أسمعه.